إن موضوع شعوب البحر يكتنفه الغموض والتعقيد, وعدم وجود الأدلة الكافية لنفيه أو إثباته, وقد تعددت آراء المؤرخين والعلماء حوله. ولكن يجمع الكل على أن (الفرست/البليست) هم أحد شعوب البحر, ولكنهم لا يتفقون على أنهم هم (الفيليست), وأن هذه المنطقة سميت باسم (فلسطين) تبعاً لهم.
ولو بحثنا في التاريخ, لوجدنا نصوصاً أخرى تدل على أن هذه المنطقة كانت تسمى (فلسطين) , قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد, ولذلك فإننا نرجح أن تكون هذه المنطقة قد سميت باسم (الفيليست /فلسطين) قبل مجيء شعوب البحر إليها, للأسباب التالية:
1ـ ذكر (ليونارد وولي) في كتابه الآلاخ مملكة منسية), أنه أثناء حفرياته في هذه المنطقة, وجد في السوية السابعة والسادسة نوعاً من الخزف المستورد, ظهر ما يشابهه في أماكن أخرى من سورية وفلسطين وقبرص. وعن حفرياته في السوية الخامسة يقول:
«وأما في سورية البناء الخامسة فعثرنا على خزف قبرصي يعود بتاريخه إلى ما قبل عام 1650 ـ 1550 ق.م. وعلى قطعتين خزفيتين فلسطينيتين تاريخ أحدهما هو استمرار ظهور هذين النوعين من الخزف الفلسطيني في سورية البناء الخامسة أيضاً تم العثور في نهاية عصر هذه السوية على النماذج الأولى من الخزف الملون المسمى (نوزو) التي تمت صناعته في المشرق خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد. «(ليونارد وولي, مملكة الآلاخ , ص 76).
2ـ إن ظهور اسم (فلسطين ـ الفلسطينيين ) في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد, يتناقض مع ما جاء في المرويات التوراتية التي ذكرت هذا الاسم في أكثر من موضع, مما يدل على أنه كان موجوداً قبل ذلك بمئات السنين, في زمن إبراهيم وإسحق عليهما السلام.
جاء في سفر التكوين: «ثم قام أبيمالك وفكولي رئيس جيشه ورجعا إلى أرض فلسطين وغرس إبراهيم أثلا في بئر سبع ودعا هناك باسم الرب السرمدي وتغرب إبراهيم في أرض فلسطين أياماً كثيرة. «التكوين 21ـ 32ـ 34.
وأيضاً:« وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك فلسطين إلى جرار. «التكوين 26: 16 .
وقد أجمع المؤرخون أن إبراهيم عليه السلام, جاء إلى بلاد الشام وفلسطين قبل القرن السادس عشر قبل الميلاد على أقل تعديل.
وكذلك الأمر بالنسبة لشعب فلسطين (الفلسطينيين). فقد ورد هذا الاسم في العهد القديم أكثر من مرة, وفي نفس الفترة التي ذكر فيها اسم (فلسطين) كموقع. يقول الخطاب التوراتي عن اسحق عليه السلام: « فكان له مواش من الغنم ومواش من البقر وعبيد كثيرون. فحسده الفلسطينيون. وجمع الآبار التي حفرها عبيد أبيه في أيام إبراهيم طمها الفلسطينيون وملأوها تراباً». التكوين 26: 14, 15
ويكرر ذلك في الإصحاح 26: 18 . و يتضح من ذلك أن فلسطين والفلسطينيين, كانوا موجودين قبل خروج بني إسرائيل من مصر, بقيادة موسى عليه السلام بعدة قرون, وأنهم أصحاب الأرض الأصليين, وليسوا دخلاء عليها.
وإذا كان إبراهيم عليه السلام, ومن بعده اسحق عليه السلام, قد زارا ملك الفلسطينيين (أبيمالك) في جرار, في موطنه, فإن هذا الاسم, اسم عربي, مما يدل على أن الفلسطينيين كانوا عرباً, وليسوا من شعوب البحر.
وفي أيام خروج موسى عليه السلام من مصر, في القرن الثالث عشر قبل الميلاد, نرى أنه يتجنب المرور بأرض (الفلسطينيين), كما جاء في المرويات التوراتية, تفادياً للصدام معهم, مما يدل على أنهم كانوا قوة يخشى بأسهم في ذلك الوقت. «وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة, لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذا رأوا حرباً ويرجعوا إلى مصر. الخروج 13: 17
وأيضا: « يسمع الشعوب فيرتعدون. تأخذ الرعدة سكان فلسطين, حينئذ يندهش أمراء آدوم, أقوياء مؤاب تأخذهم الرجفة, يذوب جميع سكان كنعان. «سفر الخروج 15: 14, 15 . ويعلق سيد القمني على ذلك فيقول: «هكذا نجد أرض كنعان قد حملت اسم (فلسطين) زمن الخروج من مصر, مما يعني أن الفلسطينيين كانوا قد استقروا هناك قبل الخروج بزمن سمح بتعميم اسمهم على أرض كنعان. «(سيد القمني, النبي موسى, ص 2/ 601). وهذا بالتأكيد قبل قدوم شعوب البحر إلى المنطقة.
« لقد أدرك الخطاب الكتابي حراجة موقفه وهو ما جعله يحل هذه المفارقة الصارخة بالقول إن المقصود بالاسم الوارد في سفر التكوين ليس الإقليم نفسه وإن هذا تشابه لفظي ليس لا. «(زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم , ص 64).
وقد ذهب بعض المؤيدين للخطاب التوراتي لتبرير هذا التناقض, بادعائهم أن بعض الأقوام الإيجية ومنهم طبعاً (الفلسطينيون) كانوا يقيمون في ذلك الوقت كتجار في (جرار). أنه كان لهم مستعمرات يقيمون فيها. في ذلك العصر, وفي تلك المنطقة, التي سميت باسمهم. وهذا , فإن الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في زمن إبراهيم وإسحق عليهما السلام يختلفون كلياً عن شعب (البرست (Prst الذين جاءوا مع شعوب البحر. ومن هؤلاء ألبرايت Albright, أستور Astour, وهو إدعاء ينقصه الدليل والبرهان.
3ـ يوصف (الفرست/البلست) القادمون مع شعوب البحر بأن رجالهم «كانوا شقراً يرتدون ملابس تختلف تماماً عن ملابس السوريين, فقد كان رداؤهم يتكون من مئزر قصير بهيج الألوان له حواف مزخرفة وينتهي في نقطة بالمقدمة, وكانوا ينتعلون أحذية عالية مزينة بألوان زاهية, أما وجوههم فحليقة ولهم شعر غزير ينسدل في ضفائر طويل على الأكتاف وغالباً ما يكون له خصلات كبيرة على الجبهة. «(شيندوروف, عندما حكمت مصر الشرق, ص 132)ز
كذلك يلاحظ من الرسومات المنقوشة على جدران معبد هابو أن «(الفرست, والتجكر, والدانونا), كانوا يرتدون زياً واحداً يتكون من سترة على الصدر محلاة بشرائط مدلاة من طرفها السفلي, بينما تغطي رؤوسهم خوذة يعلوها ما يشبه العرف من الريش. «( خالد دسوقي, أصل الفلسطينيين, ص 10)
في حين أننا لم نلحظ ذلك في الشعوب التي كانت تسكن تلك المنطقة في أوائل العصر الحديدي. حيث يوصف سكان المنطقة بأنهم «يتركون شعورهم ولحاهم تنمو مسترسلة , بل أن شعرهم يتدلى في خصل كثيفة خلف رؤوسهم حتى الأعناق ويجمعونه فيما يشبه الشبكة فوق جباههم بينما نجد وجوههم تكللها لحى كثيفة سوداء تنتهي مدببة أسفل الذقن.... ويفضلون الأقمشة المغزولة أو المطرزة بالرسوم الملونة الزاهية.« (شيندروف, عندما حكمت مصر الشرق, ص68). ويقول سليم حسن عن الفنيقيين, وهم كنعانيون كالفلسطينيين: « كانوا لهم شعر ولحى طويلة, كما كانوا يلبسون فوق دثارهم عباءة ملونة كان يرتديها عظماء «سوريا. «(سليم حسن, مصر القديمة, ص 5/ 196). وعن البحارة يقول: « أما البحارة فكانت شعورهم قصيرة ولا يرتدون إلا لباساً يغطي وسطهم. «( سليم حسن, مصر القديمة, ص5/197).
4ـ إن آلهة (الفيلست) الذين كانوا يعيشون أصلاً في فلسطين, هي آلهة عربية, سامية, معروف في المشرق العربي, وفي حوض الفرات الأعلى منذ عهد سرجون الأول, وكذلك إيبلا (تل مرديخ), و أوغاريت (رأس الشمرا). والإله (أثار جاتس) العسقلوني. و( بلعزبوب) العقروني.
ولكننا نجد الخطاب التوراتي يصور لنا أن هذه الآلهة, قد جاءت مع (الفرست وشعوب البحر), وأنهم نشروا عبادة هذه الآلهة في المنطقة, وهذه مغالطة تاريخية, فهؤلاء القادمون من جزر إبجة, لم يكونوا يعرفون شيئاً عن هذه الآلهة.
ولو افترضنا جدلا بأن ما تدعيه التوراة بأن هذه الآلهة هي آلهة (الفرست), وأنهم هم الفلسطينيون, لسلمنا جدلاً بأن هذا الشعب وغيره, كانوا موجودين في ذلك الوقت وقبله في المنطقة, وليسوا غرباء عنها, وهذا ما توحي إليه إشارة مدينة هابو إلى الـ (بيليست) بأنهم, المختبئون في مدنهم. «(طومسون, التاريخ القديم لشعب إسرائيل, ص 186).
5ـ لم تحدد نوقش (هابو), ولا برديات هاريس التاريخ الذي التقى فيه رمسيس الثالث مع شعوب البحر, ولكن على الأغلب فإن ذلك قد تم في الخمس سنين الأولى من حكمه (1198 ـ 1167 ق.م.) التي كانت تعرف باسم (سهل فيلستيا أو سهل فلسطين) نسبة إلى شعب سكن هذه المنطقة بهذا الاسم, بأن الخزف الذي كانت تصنعه شعوب هذه المنطقة كان يسمى (الخزف الفيلستي), وقد ضم عدة أشكال وتقنيات ونقوش مستمدة من النقوش المحلية والميسينية, وهذا « لا يعني أي أصل محدد, لأن مثل هذه الأواني قد وجد في مواقع عديدة في إبجة وعلى طول الساحل الكليكي. وفي أي حال, فالواضح هو أن الأواني نفسها صنعت في فلسطين وتواصلت أشكالها وزخارفها في العصر الحديدي الأول كأوان محلية مستمدة من أشكال وزخارف الأواني الفلسطينية في العصر البرونزي الأخير. « (طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ص 184).
وقد أثبت (مكليلان T.L.McClellan ) في دراسته لأواني (تل الفارعة Tellel-Farah ) أنه لا توجد علاقة بين الأواني الفلسطينية, ووصول الفلستيين (الفرستيين) إلى فلسطين, أو وجودهم هناك. كما أن (تي . دونثان T.D) توصلت إلى نفس النتيجة, وأن الرسوم والنقوش المسينية لم تنتقل إلى فلسطين فقط, بل إلى قبرص وسورية وأماكن أخرى, ويجب عدم ربط ذلك بالتاريخ الذي هاجمت فيه شعوب البحر المنطقة, فقد ثبت تاريخياً بأن هجرات إيجية مختلفة قد استوطنت الساحل الشرقي للبحر المتوسط, قبل هذا التاريخ بقرون.
كما أن تطور النقوش الخزفية الفيلستية في ذلك العصر, وإن كانت مشابهة للنقوش المسينية في بعضها, ليس بالضرورة اعتبارها نقوشاً على أيدي خزافين ميسينيين استوطنوا المنطقة مع شعوب البحر, بل يمكن اعتبارها تطوراً في النقوش الخزفية الفيلستية المستخدمة. ويعلق طومسون على ذلك فيقول: « هذه الأواني المختلطة تشير إلى اندماج نمطين متميزين من الخزف. ولا يستطيع المرء تحديد إثنية الخزاف, ومن باب أولى, إثنية المستوطنات التي وجد بها الخزف. «(طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي , ص 187).
ولو اقتنعا بنص (بريستد) السابق, من أن رمسيس الثالث كان يراقب المعركة من على شاطئ أصلاً إلى منطقة (فيلستيا /فلسطين) الجنوبية. ومن الممكن جداً أن تكون هذه المعركة البحرية قد وقعت أمام سواحل فينيقيا, وليس في جنوبي فلسطين, حيث أن هذه كانت تفتقر إلى الموانئ البحرية الهامة في ذلك التاريخ.
6ـ من قراءتنا للتاريخ قديمه, وحديثه, نرى حقيقة تاريخية, لا زالت ماثلة منذ أقدم العصور, وهي أنه ما من شعب ينتمي لخارج هوية الإقليم, استطاع أن يغير اسم ذلك الإقليم تبعاً لجنسيته, أو عرقه, أو دينه, أو غير ذلك.
فقد شهد إقليم (فيلستيا/فلسطين) احتالاً من كثير من الممالك والإمبراطوريات لعدة قرون, منهم البابليون, والأشوريون, والفرس, والإغريق, الرومان, والمسلمون, والتتر, والأتراك, والمستعمرون الأوروبيون, ولم يتمكن أحدهم من تغير طبيعة أو هوية الإقليم باستمرار, وأنه إذ قام أحدهم بتغيير الاسم, لا يلبث أن يعود الاسم القديم إلى الظهور بعد زوال المحتل.
وعليه, فإنه لمن المستبعد القبول بقول من يرى أن (فلسطين) سميت هذا الاسم نسبة إلى (الفرست), أحد شعوب البحر, وكان الإقليم لم يكن له اسم قبل ذلك.
ومن ناحية أخرى, فإن هؤلاء الذين يقرون التوراة على ادعاءاتها, ومنها أن الفلسطينيين قد سكنوا المدن (الخمس), بعد استقرارهم في الساحل الجنوبي من فلسطين فإن هؤلاء القادمون الجدد ـ حسب الرواية ـ لم يغيروا أسماء هذه المدن, ولم يبنوا مدناً جديدة, وهذا يختلف كلياً عما درج عليه الحال في فلسطين على مر العصور.
فالأشوريون, والبابليون, والفرس, والسلوقيون, والبطالسة, والروم, والمسلمون, وكل من احتل فلسطين, قام بإنشاء مدن جديدة, وغير بعض أسماء المدن التي كانت قائمة من قبل, ولو إلى حين, ما عدا هؤلاء (شعوب البحر), لم يفعلوا شيئاً من هذا القبيل, مما يجعلنا نشك كثيراً في تلك الرواية من أساسها.
7ـ لا شك في أن شعوب البحر, ومن ضمنهم (الفرست), كانوا يتكلمون بلهجة (لغة) تختلف عن اللغة الآرامية ولهجاتها المختلفة, التي كانت سائدة في المنطقة. ولم يحدثنا التاريخ أن هذه الشعوب, استطاعت أن تنشر لغتها في المنطقة, أو أنها قد تركت بعض الرموز والآثار التي تدل على هذه اللغة, مما يدل على أنهم كانوا يتكلمون لغة البلاد (الكنعانية), وبالتالي فليس من المستبعد أنهم قد جاءوا من المنطقة, وليس من خارجها.
8ـ إن الفلسطينيين المذكورين في سفر التكوين في زمن إبراهيم وإسحق عليهما السلام, يختلفون كلية عن الفلسطينيين المزعومين الذي ظهروا في أوائل عصر الحديد. ففلسطينيو سفر التكوين كانوا يقيمون في جرار (أبو حريرة حالياً) ـ وقيل غير ذلك ـ وكان يحكمهم ملك اسمه (أبيمالك), ولم يستوطنوا المدن الخمسة المذكورة فيما بعد . كما أنهم كانوا مسالمين, ويظهر هذا جلياً من معاملتهم لإبراهيم وإسحق عليهما السلام, فلم يكونوا أصحاب قتال ونهب وسلب, كالذين جاؤوا إلى فلسطين مع شعوب البحر.
9ـ يفهم من الخطاب التوراتي, إن الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي السوري, وكذلك من النصوص المصرية والآشورية فيما بعد, أنهم ذو إثنية مشتركة متواصلة, ولم تنقطع هذه الإثنية يوماً ما.« فرأي معظم مؤرخي فلسطين القديمة, وليمخي أن فلسطينيوا المرويات التوراتية هم الشعب الذي عاش في السهول الساحلية و الوسطى والجنوبية من فلسطين, والذي لعب دوراً رئيساً في التطورات التاريخية في فلسطين في بدايات العصر الحديدي...«(طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ص98). وأن الدور الذي قاموا به في عصر الحديد ليس دور حراس, أو خلفاء للسيادة المصرية على المنطقة, وإنما يمثل أصحاب تاريخ لهم دورهم في الحياة السياسية والاقتصادية والحضارية, التي جرت أحداثها على أرض المنطقة. وأن مجيء شعوب البحر, واستقرار بعضهم في هذه المنطقة, لم يؤثر في هذا الدور, وأن ما قام به شعوب البحر ما هو إلا دور مؤقت في خدمة ملك مصر, وليست لهم أية علاقة بما كان يقوم به أصحاب الأرض الفعليون.
10ـ باعتراف المؤرخين أن شعوب البحر, قد ذابوا في المجتمع الكنعاني (تكنعنوا) خلال قرن واحد من الزمان. والتاريخ أعلمنا, أن الشعب الأضعف هو الذي يذوب في الشعب الأقوى. فإذا كانت شعوب البحر من القوة والحضارة التي يتحدث عنها التاريخ, فلماذا هذه الشعوب ذابت في المجتمع الكنعاني بهذه السرعة؟ ولماذا لم تترك هذه الشعوب أي أثر لها على الساحل الفلسطيني يذكر بقوتها وحضارتها, إن كانت فعلاً كما يذكرها به التاريخ؟
الأغلب, أن هذه الشعوب كانت أقواماً بحرية همجية, لم تصل حضارتها الحد الأدنى الذي وصلت إليه الحضارة الكنعانية, ولم يكن لهم تعداد الكنعانيين السكاني, ولم تكن لهم لغة واحدة تستطيع أن تحل محل اللغة الكنعانية, ولهذا سرعان ما ذابوا في المجتمع الكنعاني, مما يصعب معه القول أن الإقليم (فلسطين) سمي بهذا الاسم على اسمهم.
11ـ إن رواية التاريخ الذي وصلنا عن شعوب البحر, تقول بأنهم قد غزوا المنطقة بكامل تعدادهم, وعددهم , ورجالهم, وشيوخهم, ونسائهم, وأطفالهم, وكل ما يستطيعون حمله, فهل من المعقول أن يقرر شعب ما , ترك أرضه والمغامرة بكل وجوده في ركوب البحر, أو المسير برا, لمقاتلة أقوام لا يعرف مقدار قوتهم؟ ومتجهاً إلى جهة غير محدودة, أي بقايا هذا الشعب ( البلستي) في وطنه الأم؟ أين بقاياه في أي مكان تحدث عن التاريخ كوطن أصلي لهم؟ ولماذا لم يحدثنا عن ذلك فيما بعد؟ إن التاريخ صامت, لأنه لا يعرف شيئاً عن ذلك.
12ـ للباحث محمد بغدادي رأي لم يسبقه أحد فيه, في تفسيره لمعنى كلمة (فلسطين), نلخصه فيما يلي:
«إن تسمية فلسطين خرجت من قاموس القرشاي, الذين هم أحد الشعوب السورية. فإن فلسطين, أو بلستين, أو بلسط + ياء النسبة. كل هذه الصيغ والتحولات في اسم فلسطين, إنما تمت ضمن إطار القواعد الصارمة ولا شواذ في الأمر. وكما تعلم أن اللغات القديمة كانت تكتب بالمقاطع الصامتة, وقد جرى تحريكها فيما بعد. فالاسم (بلسطي) يكتب هكذا:
بل+سط+ي
بل: بكسرة منخفضة على الباء واللام تعني (معروف, مشهور)
سط: بفتحة على السين, وضمة على الطاء, تعني (تجارة)
ي: بهمزة مضمومة, تعني (بيت)
بل سط ي= بيت التجارة المشهور
أما إذا كانت الباء مشددة فإن معناها يصبح (صاحب), بدلاً من (بي) , واعتماداً على ذلك فإن بل+سط+بي= صاحب التجارة المشهورة.
وإذا اعتبرنا الياء ياء مشددة, فإن معناها يصبح (صاحب) , بدلاً من (بيت) , واعتماداً على ذلك فإن بل+سط+بي= صاحب التجارة المشهورة.
وإذا اعتبرنا الياء, ياء النسبة ولا علاقة لها بمعنى فلسطين فالأمر لا يتغير (بل +سط) وهي الصيغة التي دونت في الكتابات المصرية, فذلك يعني (التجارة المشهورة).
وإذا كانت (بلشتي), لا يتغير المعنى لأن الشين والسين بنوب أحدهما عن الآخر.
وإذا كانت بلستي (بالتاء) وليس بالطاء, فالأمر سيان, لأن الطاء تفخيم التاء. فأي حرف استعملناه في الكلمة, فإن المعنى يبقى يدور في فلك واحد, ويدل على شيء واحد, وهذا الشيء متعلق بالشهرة والتجارة, وهي صفة سكان أرض كنعان الأساسية.
بقي علينا أن نفسر الآن كيف تحولت (بلسطي) إلى فلسطين:
فلسطين: في اللغة العربية تتبادل الفاء والباء مواقعهما, ولا يغير ذلك في معنى الكلمة شيئاً. مثل (وقف ـ وقب), (وجف ـ وجب). إذا, لا تترتب أية استحالة على انقلاب الباء في (بلسطين), إلى فاء في (فلسطين). بقيت النون, وهي من أحرف الزيادة التي تضيفها اللغة العربية الحديثة, إلى أواخر الكلمات لتحسين السمع الموسيقي للكلمة.
إذا, فالتسمية لم تطلق عبثاً.. بل أطلقت عليه لتعبر عن مهنتهم تماماً, وهي مطابقة للصفة الأساسية التي يمتاز بها السكان الأصليون, ألا وهي التجارة. «( محمد بغدادي, فلسطين والقرشاي, ص 36ـ4- بتصرف).
ويلخص زياد منى الحديث عن الاسم (فلسطين) بقوله:
« نلخص ما توصلنا إليه حتى الآن من معارف, بالقول إن التقصي العلمي بمكوناته اللغوية و الآثارية والتاريخية أظهر أن المشرق العربي عرف منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأقل إقليماً باسم فلسط ـ وبصيغة الجمع الكنعانية (فلسطيم) الذي عرب لاحقاً إلى فلسطين. « زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص 89).
فلسطين الإقليم:
يرى توماس أن حدود فلسطين كإقليم «إنما يتمركز على الشريط الساحلي المتوسطي الشرقي. تحدها المنطقة المناخية المتوسطية الخصيبة للمشرق الجنوبي على جانبي فالق الأردن« (طومسون, الماضي الخرافي التوراة والتاريخ, ص 367).
ففلسطين كإقليم تاريخي يضم كل المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن, وكذلك على منطقة لا تقل في بعدها عن خمسين كيلومتراً شرقي النهر. ومن الجدير بالذكر أن صندوق اكتشاف فلسطين, قد نشر خريطة لفلسطين عام 1890م, شملت الأراضي غربي النهر وشرقه, وكانت تطلق على ذلك اسم فلسطين الغربية, وفلسطين الشرقية.
وترى التوراة أن إقليم فلسطين, والذي تعود تسميته إلى اسم قوم جاءوا مع شعوب البحر, أن هذا الإقليم انحصر منذ بدايته في الشريط الساحلي الجنوبي الشرقي لشاطئ البحر الأبيض المتوسط. وكانت مدنهم الرئيسية (خمس) مدن, وهي : أشدود (العاصمة), وعسقلان, وغزة وعقرون, وجت. ومع أنه كان لكل مدينة زعامتها وسيادتها المستقلة, إلا أن هذه المدن كانت تتحد عندما تتعرض أحدها لأي خطر.
وحتى هذا الادعاء له ما يعارضه تاريخياً وأثرياً, حيث أن التنقيبات الآثارية أظهرت وجود أثار تعود لما يسمونه بشعوب البحر, قد انتشرت في معظم أنحاء فلسطين, شرق النهر وغربه.
وقد تحدث هيرودوت عن منطقة الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط, فقال:
« ووصل عدد المشاة إلى ألف ومائة وسبعة أشخاص, وكانت الأقوام التي وفرتها هي التالية: الفينيقيون وسوريو فلسطين معاً ثلاث مائة. وكانوا مسلحين على النحو التالي: كانوا يرتدون خوذة على الرأس تشبه إلى حد كبير رديفها الإغريقي, وقميصاً من الكتان ودرعاً دون أطراف ورمحاً. ووافق ما يقوله الفينيقيون, فقد كانوا في العصور القديمة يعيشون على ساحل البحر الأحمر, ولكنه قاموا لاحقاً بالانتقال عن سورية إلى الساحل الشريطي الذي يقطنونه حالياً. وتعرف هذه المنطقة من سورية وما يليها جنوباً حتى مصر بفلسطين. «(هيرودوت, التاريخ, ص522)
وعندما يتكلم عن السكيثيين في مسيرتهم وزحفهم إلى بلاد الشام ومصر, يقول: «ولما تم لهم هذا زحفوا إلى مصر للاستيلاء عليها, فلما بلغوا فلسطين وجدوا أمامهم ملك مصر بسميتاك.«(هيرودوت, التاريخ, ص81).
وهم يعتبروهم سوريون, وليسوا غيرهم, فيقول:«لا يمكن دخول مصر إلا عن طريق عبور الصحراء, ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفنيقيين حتى حدود مدينة كاديتس (غزة) السوريون الذين يسمون «الفلسطينيون». « (هيرودوت, التاريخ, ص 219).
وكذلك أيضاً عندما يتكلم عن الختان, فيقول: « وهذا أمر يقر به الفنيقيون والسوريون سكان فلسطين فيقولون بأنهم إنما أخذوا هذا التقليد عن المصريين. « (هيرودوت, التاريخ, ص178).
وهو يعتبر فلسطين جزءا من سورية, فيقول: « إن النصب التي أقامها سيوستوريس ـ(يعتقد أنع سنوسرت الأول أو سنوسرت الثالث من الأسرة الثانية من عشر) ـ في البلاد التي قهرها قد زال معظمها, ولكن رأيت بأم العين تلك النصب ما تزال قائمة في ذلك الجزء من سورية المسمى فلسطين. «(هيرودوت, التاريخ, ص 179).
وإن عدم استعمال هيرودوت أيا من الأسماء الإسرائيلية (مملكة يهوذا, مملكة إسرائيل, بنو إسرائيل, السامرة, داود, سليمان, الهيكل, وغيرها) في كتبه, يدل على أن هذه الأسماء لم تكن على قدر من الأهمية, بحيث تظهر كلها أو بعضها, عند الحديث عن المنطقة جغرافيا.
وكما يلاحظ من وصفه للمنطقة, أن فلسطين كانت تشمل كل المنطقة الواقعة من صور شمالاً, حتى غزة جنوبا, وهذه المنطقة عرفت عند الرومان باسم (فلسطين) في أوائل ال قرن الثاني الميلادي.
وقد ذكر اسم الإقليم (فلسطين), في السجلات المصرية باسم (رتنو, رتنو العليا), و(كناخي) أي بلاد كنعان. وفي العهد الآشوري (القرن الثامن قبل الميلاد) ذكرت فلسطين التي تشمل الجزء الجنوبي من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط» «وقد أصبحت فلتسيا مقاطعة أشورية في أواخر القرن الثامن.» « (حمدان طه, تاريخ الفلستينيين, رسالة ماجستير, ص 18). وكذلك في العهد الروماني.
وكذلك في زمن الدولة العثمانية, حتى في عهد الانتداب البريطاني, كان هذا الإقليم يعرف باسم (فلسطين), وبقي الأمر كذلك حتى سقوط فلسطين بأيدي الاحتلال الإسرائيلي سنة 1948 م, فأصبح الاسم (فلسطين , و إسرائيل) وأصبح الاسمان يستخدمان حسب الرأي والمزاعم.